بقلم سليم النجاز
إن القلوب تفزع للمفاجأت وتهدأ في مجراها، كما أن العيون تبحث لفها في الظلام وتغفو فيه٠ وهي المفارقة التي تكشف في رمزيتها عن أن الانقلاب المفاجئ في الإحساس والرؤية يمرّ كما لو أنه الطور الضروي للوجود العربي.
فالتعرجات والانكسارات والالتواءات والإنقلابات المؤلمة والمثيرة والمفزعة التي تعرض لها العقل العربي السياسي التنويري، عندما وقف شبه عاجز أمام المد والتمدد للإسلام السياسي في عالمنا العربي،
وهذه التعرجات والإنكسارات التي تعرض لها العقل العربي، جعلت منه تبعي لردة الفعل للعقل السياسي للإسلام السياسي، الذي بدا في السنوات الأخيرة هو الفاعل، ولم يتعلم العقل العربي التنويري من تراثه المستنير أي شيء يذكر، حتى التعرجات والإنكسارات شرحها ابن عربي قائلاُ أن الأعوجاج في القوس هو عين الاسنقامة٠ وبهذا المعنى يمكن القول بأن الانقلابات الكبرى في التاريخ هي عين الاستقامة فيه٠ وليس ذلك لان هذه الانقلابات تعكس مساعي الخيال المبدع في بناء نظام اجتماعي ثقافي افضل فحسب، بل وبفعل تمثيلها للاستعدادات القائمة فينا٠
أما الحصيلة الواقعية فانها عادة ما تتجلى في فرح طاغ للانتصار والتقدم أو في حزن عميق للسقوط والهزيمة كما حصل في عالمنا العربي،
وليس اعتباطا ان تصل الثقافات السياسية للإسلام السياسي بأشكالها المتنوعة، وكل بطريقتها الخاصة، إلى ادراك وإعلاء شأن معايير مفاهيم تم إستجلابها من دهاليز التاريخ الإسلامي الذي يعزز رؤاهم في مجرى صراعاتها الاجتماعية- السياسية والدينية- العقائدية لتصل إلى محور الإنقلاب- في قضايا وجودها الاجتماعي السياسي( كالخلافة والإمامة، والجماعة والأمة، والإسلام والأيمان وغيرها) وعدم وعيها النظري والعملي( في مفهوم المعقول والمنقول، والرواية والدراية، والتقليد والاجتهاد)٠ وتبدع في إغتيال الذاكرة التراثية، وتنقي بشكل متعمد وعن إصرار في نقل الإنقلابات السياسية الإجتماعية التي تعرضت لها الأمة العربية، على إنها إنتصارات، وليس تطورا ووعيا في رفض الظلم والعنصرية التي يتعرض لها الإنسان العربي، كما حصل في ثورة" الزنج" في العهد العباسي، وبدلا من رؤية الأخطاء التي حصلت في معالجة هذه الثورة، من السلطة الحاكمة آنذاك قامت بقمعها وقتل الآلف من البشر٠ ونتج عن هذه القمع فرق كالقرامطة الرافضة لكل الموروث العربي الإسلامي، ودخل العالم العربي الإسلامي في فوضى فكرية وإجتماعية واقتصادية، أدت في نهاية المطاف إلى سقوط السلطة المركزية بشكل نهائي، وتشتت العالم العربي إلى فيفساء سياسي.
لقد استطاع الإسلام السياسي تحويل الإسلام إلى فلسفة مدرسية وتعاليم قسرية ولاهوتية محنطة وأيديولوجية تبريرية بيد مشايخ الإسلام السياسي٠ وجرى تحويل التراث حسب مفاهيمهم إلى مرجعية صنمية، أي خواء تام وشامل لها في الوجود والوعي٠
فقد قام الإسلام السياسي بالتنقيب في التراث العربي الإسلامي عن مرشدين يكونون بوصلة نظرية يهتدون بها، ويعززون أفكارهم، فهم لم يهتدوا لابن رشد أو ابن خلدون، أو الفارابي، بل ذهبوا إلى نقصيهم كالغزالي وابن تيمة إلى غيرهم من المرشدين الذين يتوافقون مع توجهاتهم السياسية والثقافية.
هذا الإغتصاب للذاكرة العربية الإسلامية، من قبل منظري الإسلام السياسي، لم يقف عند هذا الحد، بل قاموا بفتح مقابر، وابدعوا في فتح القبور، لكل شخصية تنويرية ترفض أفكارهم، وأقاموا عليها صلاة الغائب، ليس للترحم عليها، بل الدعاء عليها.
لقد جرى الخلط طويلا بين "الحماسة الدينية الشعبية" الواسعة النطاق في عالمنا العربي، وبين الإسلام السياسي الذي جير هذه الحماسة لحسابه الخاص،
إن هذه الصورة تعكس- أكثر من أي شيء آخر- منطق مراكز القوة والفرق الصغيرة التي تعيش في بوتقة الإسلام السياسي المتنازعة التي تعتمد كلها على الارهاب والاغتيال والتخلص من الخصوم المنافسين، ولا يمكن أن يكون هذا المنطق السائد انعكاسا لثورة شعبية تتنزعمها قيادات تستلهم- المصالح الخاصة- وان تكون نبض الآمال العربية بالتخلص من التخلف والركب بالعصر.
إن طاحونة الارهاب ومنطق العصابات الصغيرة قد امتد من الحروب الداخلية بين فرقهم المختلفة إلى الخارج، فاصبحت عمليات القتل واستبعاد الإنسان وإلغاء العقل النقدي، وإستبدال المعرفة، إلى خرافات مهيمنة على العقول، وتكريس ثقافة الإغتصاب- لكن ليس للذاكراة- بل إلى أدمية الإنسان، كشيوع" نكاح الجهاد" وتحليل كل الطرق المؤدية للإغتصاب التي في جوهرها هي بسط مفهوم أن الإنسان مسير لغرائزه٠
صحيح أن جسد المريض لا يعالج بتقطيع أوصاله، وكل من القطع المجتزأة لا يمكن أن يحيا بمفرده، وإذا أفترضنا إن الإسلام السياسي كيانا مفتعلا (وهو افتراض بعيد عن الدقة كل البعد) فان مواجهته يقتضي دراسة متأنية مستفيضة، لا كما يسعى العقل العربي التنويري إلى الطلاق المخملي مع الإسلام السياسي٠